لا شك في أنّ زيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على رأس وفد كبير لدمشق، ولقاءه بقائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع، تُعتبر خطوة جريئة، خصوصاً أنّ واشنطن والعواصم الأوروبية تتعامل معه في المرحلة الحالية وكأنّها مرحلة اختبار له. صحيح أنّ السلوك الغربي تجاهه تغلب عليه الإيجابية، لكن هنالك عدداً من النقاط والمسائل التي لا تزال في حاجة للتحقق، قبل الشروع بعلاقة كاملة وطبيعية.
فواشنطن ومعها العواصم الأوروبية، تتقصّد أن تنتهح سلوكاً يؤكّد أنّها ليست معادية للشرع، ومن هنا تحرص على التواصل معه والبدء ببناء علاقة مباشرة من خلال الوفود إلى دمشق، بعد مرحلة طويلة من الإنقطاع عنها وإعادة فتح بعض السفارات. لكن وعلى رغم من هذا السلوك الإيجابي، هنالك ما يشبه التمهّل في الذهاب إلى اعتراف رسمي، ومنح «سلطة» الشرع المشروعية الدولية في انتظار التأكّد من تنفيذ وعوده، بدءاً من تلك التي تُعتبر ملحّة. وبالتالي فإنّ السلوك الغربي يمكن اختصاره بأنّ كل خطوة للشرع ستقابلها خطوة من الدول الغربية.
والنقاط الملحّة المطلوبة متعددة، بدءاً من شكل السلطة التي ستتولّى الحكم، ومدى إشراك مختلف أطياف المجتمع السوري السياسي (الأكراد) والطائفي (الأقليات الدينية). وفي المقابل هنالك خطوات ملحّة تحتاجها سوريا، مثل رفع العقوبات وإنعاش الدورة الإقتصادية، وكذلك استعادة العلاقات الديبلوماسية الكاملة. وفي هذا الإطار تأتي زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي بربارة ليف لدمشق بمثابة خطوة أميركية واعدة وفي الوقت نفسه حذرة. ذلك أنّ ليف تستعد لمغادرة منصبها، ما يعني أنّ أي خطوة سورية ناقصة لاحقاً يمكن تحميلها المسؤولية عنها، وفي الوقت نفسه فإنّ أي تقدّم إلى الأمام ستتولّى الإدارة القادمة متابعته. ولا شك في أنّ المهمّة الأصعب تبقى في إعادة بناء الإقتصاد السوري المدمّر، وهي معالجة ستكون بطيئة، كون 90% من الشعب السوري أضحى فقيراً، كما أنّ الدورة الإقتصادية مشلولة ومدمّرة.
ويشكّل انعقاد المؤتمر الوطني السوري والجاري الدعوة له والمخصص لتحديد شكل المرحلة المقبلة، تحدّياً أساسياً لطرح مبدأ التفاهم أو اتساع التباينات الموجودة وتحولها انقسامات خطيرة. فالعواصم الغربية تدرك أنّ أحمد الشرع يحكم قبضته على «هيئة تحرير الشام»، لكن ثمة تساؤلات لا بل شكوكاً حول المجموعات المسلحة الأخرى، والتي قاتلت إلى جانبه ولكنها لا تخضع لسلطته، ولديها توجّهات سياسية مختلفة وبعضها يتمسك بميوله المتطرفة ويحظى بتمويل غير واضح.
كذلك فإنّ مسألة المحافظة على «قسد» تصطدم بعداء تركيا تجاهها. وهنا تبرز معضلة شكل النظام وما إذا كان سيلحظ الإعتراف بالإدارة الذاتية للأكراد، فيما بات هؤلاء يسيطرون على نحو ثلث المساحة السورية، حيث الثروات النفطية السورية.
وقد يكون التفاهم الأساسي والصلب القائم بين السلطة السورية الجديدة والعواصم الغربية، هو بإبقاء إيران وروسيا خارجاً. ومن المتوقع أن يتمّ طرح مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا على جدول البحث قريباً.
ولا شك في أنّ كلام الشرع من أنّ سوريا «لن تكون أفغانستان ثانية»، وأنّ الثورة إنتهت في سوريا، ما يعني أنّه لن يتمّ «تصديرها» إلى الخارج يريح الغرب وكذلك الدول العربية. لكن ثمة عدوى غير مقصودة قد تسببها نتائج الثورة السورية لتطاول بلداناً قريبة من سوريا.
ولاحقاً سيجد الشرع نفسه أمام موضوع العلاقة مع إسرائيل واحتمال تدرّجها من الضمانات الأمنية إلى العلاقات المباشرة، في وقت اندفعت حكومة نتنياهو في استباحة الجولان والمناطق المحاذية وتدمير الأسلحة في لحظة انعدام الوزن الداخلي في سوريا. ولا شك في أنّ خطوة نتنياهو تتجاوز المزاعم الأمنية الموقتة وتؤشر إلى احتلال دائم كما عوّدتنا إسرائيل دائماً.
لكن جنبلاط بخبرته السياسية الغنية والطويلة يدرك جيداً أنّ لبنان يتأثر بقوة بأي مستجدات على الساحة السورية، فكيف بالحري بحصول انقلاب كامل والبدء ببناء صورة جديدة على ركام الهيكل البعثي المندثر. لا بل أكثر من ذلك، فإنّ الإنقلاب السوري يشكل حجراً من ضمن أحجار الدومينو في المنطقة والقائمة على دفن نفوذ إيران الإقليمي وإحلال معادلة جديدة لم تتضح عناوينها بعد.
ففي العراق أو الجار الشرقي لسوريا أو ما عُرف بـ«الحديقة الخلفية» لإيران والممر الواسع في اتجاه سوريا فلبنان، باشر رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بخطوات ولو خجولة في اتجاه التأقلم واستباق العاصفة. فأقدم السوداني على تعيين شخص موالٍ بالكامل له في رئاسة جهاز المخابرات العامة بعد أن بقي هذا المنصب يُدار بالوكالة لسنوات عدة. وفُهمت الخطوة كإشارة لواشنطن بأنّه سيمسك لوحده بالملف الأمني، وهي خطوة ستزيد من حفيظة طهران التي لم تخرج بعد من صدمة خسارة سوريا. ذلك أنّ طهران والتي تراهن على انفجار النزاعات بين المجموعات التي استولت على الحكم في سوريا لكي تستطيع أن تتسلل مجدداً الى سوريا وتعيد بناء خطوط اتصال سرّية في اتجاه الحدود اللبنانية، طلبت من مسؤولي الفصائل العسكرية العراقية الموالية لها أخذ الحذر أمنياً لمنع اغتيالهم كما حصل في لبنان. وهذا ما يفسّر الغياب الكامل لهؤلاء عن الظهور الإعلامي. ذلك أنّ المطلوب حل الفصائل المسلحة خارج نطاق مؤسسات الدولة، وهو ما أعلن السوداني رفضه على الأقل حتى الآن.
لكن إيران والتي تُظهر مرونة في تعاطيها مع دمشق وتعمل بحذر في العراق، تعمد إلى رفع السقف في اليمن لاعتقادها بأنّها أكثر مناعة وحماية من العراق.
لكن الوضع الإقتصادي الإيراني الصعب يجعلها تقف في منطقة محفوفة بالأخطار. وعلى سبيل المثال، هنالك أزمة طاقة مستجدة في إيران أدّت إلى انقطاع متتالٍ للكهرباء ما انعكس سلباً على أجزاء أساسية من القطاعات الصناعية والإنتاجية، وهو ما يخشى من ترجمته إلى احتجاجات في الشوارع.
كذلك، فإنّ الملف النووي الإيراني سيبدأ التفاوض حوله قريبا جداً. ولا حاجة للتذكير بأنّ دونالد ترامب والذي سيتسّلم مهماته قريباً، كان أعلن صراحة أنّه سيبدأ من خلال انتهاج سياسة الضغوط القصوى على إيران، أي مزيد من العقوبات المؤلمة والمؤذية.
لكن الجديد ما تسرّب من العاصمة الأميركية، من أنّ فريق ترامب بات يناقش احتمال توجيه ضربات للمنشآت النووية الإيرانية لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية. ويمكن تفسير كلام ترامب لمجلة «تايم» في هذا الإطار. فهو قال إنّه لا يستبعد احتمال نشوب حرب مع إيران، «فأي شيء يمكن أن يحصل، إنّه وضع متقلّب للغاية». ذلك أنّ ترامب يدرك أنّ إيران «الجريحة» والمحشورة في الزاوية يمكن أن تذهب في اتجاه جنوني.
ووفق هذه الصورة يقوم البعض بوضع حساباته في لبنان. جنبلاط من خلال زيارته المثيرة لدمشق لترتيب أوضاعه وأوضاع بيته الدرزي، نبيه بري الممسك بزمام القرار الشيعي يريد انتخابات رئاسية قبل العشرين من الشهر المقبل، وسمير جعجع يفضل الإنتظار الى ما بعد تسلّم ترامب للسلطة وهو ما استنتجه عدد من سفراء دول الخماسية بعد زيارتهم له.
وخلال الأيام الماضية، أرسل بري إلى جعجع أكثر من اسم مرشح رئاسي، وكان جواب جعجع الفوري «مش واردة أبداً»، وأرفق جوابه السلبي الحازم بتمنعه عن إرسال أي لائحة اسمية إلى بري. ويعتقد أحد سفراء الخماسية، أنّ بري يعمل على استهلاك كل الوقت المتاح وصولاً إلى حافة الهاوية، وأنّ موقفه الحقيقي والنهائي لن يكون قبل الرابع أو الخامس من الشهر المقبل. لكن في ذلك مناورة محفوفة بالمخاطر. ذلك أنّ الإنطباع الجامع لدى الوسط الديبلوماسي، أنّ جعجع بارد تجاه الجلسة المحدّدة في التاسع من كانون الثاني. فهو يريد تأجيل الملف إلى ما بعد تسلّم ترامب وتوجيه ضربات إضافية لطهران، ما سيؤدي إلى فتح طريق بعبدا أمامه، بخلاف الفريق الشيعي الذي يحرص على عدم تخطّي حاجز الـ20 من كانون.
فكلما تقدّم الوقت كلما تكرّست معادلة الحكم الجديدة في سوريا، وتالياً تضاعفت جرعات انتعاش الحالة السنّية في لبنان. ومع تلويح ترامب بقبضته تجاه إيران سيتعزز النفوذ السعودي، وهو ما سيلفح بدوره لبنان.
هي الحسابات التي تحاصر لبنان ولا بدّ من أن تحسم المسار الرئاسي مع انطلاق السنة الجديدة، وهو ما قد يكون دفع بجنبلاط إلى أن يحسم قراره مسبقاً، لإدراكه أنّ الهامش الزمني ضيّق ما يجعل المناورة صعبة لا بل خطرة.